هكذا غيرتني غزة


أ. شروق محمد




لم يعرف عنه إلا المبالغة في الاعتناء بصحته ، والخوف من أي عرض مرضي حتى أنه كان يتحوط من أي جرح صغير يلم به..ولكنه ومنذ بدء العدوان على غزة ، أخذ يبحث في دأب عن وسيلة للمساعدة والتضامن ، حتى علم بحملة التبرع بالدماء لأهل غزة..فأسرع مهرولاً ليكون من أوائل من بعثوا بدمائهم لأهلنا هناك..لم يفكر طويلاً ولم يتحوط كعادته ولم تجتاحه لحظة تردد..كان يقول بضعة من دمائي في شرايينهم قد تسبقني إلى الجنة..فأحياؤهم -إن عاشوا- شهداء يمشون على الأرض..




لم تكن إلا هادئة خجولة تستحي أن ترفع صوتها ولو في جمع من أفراد العائلة..ولكنها وبالمصادفة وجدت تلك التظاهرة في إحدى شوارع المدينة..مرت من أمامها بسرعة وابتعدت..ثم لم تلبث أن عادت بعد أن علت الحناجر بالهتاف ورددت القلوب النداء..وقفت أمام النساء هناك ..تأملتهن..تأملت الإصرار والعزم في عيونهن ، وكانت منهن من تحمل صغارها على أكتافها وتهتف بقوة..اندست بينهم وهي ترتعش ؛ فلم يسبق لها المشاركة في مثل هذا من قبل..مضت الدقائق وبدأت تتمالك نفسها ثم رددت النداءات بصوت مخنوق لا يكاد يٌسمع..ثم بدأ صوتها يعلو تدريجياً ..حتى وجدت نفسها تردد بقوة وبصوت جهوري معهم..أحست أن قلبها يخفق ، ومشاعرها تتهلل ، وروحها تهدر وهي تخرق حجب الخجل والخوف القديم وتؤدي هذه الرسالة مع أخواتها..ثم سرت نشوة عجيبة في عروقها وهي تدعو معهم دعاءً جماعياً وتبتهل..أما رجال الأمن الذين يملئون المكان فقد لمحت نظرات الحسرة في عيونهم وهم ينكصون عن المشاركة معهم ، وأخذ المارون يدعون لهم بالتوفيق والسداد في كل ما يقولونه ويفعلونه..وانتهى المشهد الرائع وهي تقول في نفسها لا خوف ولاخجل بعد اليوم من أجل غزة.




كان انشغاله بعمله وعيادته ومرضاه أهم لديه حتى من حياته الخاصة ومتعته الشخصية..لكنه رأى العيون تتطلع والأفئدة تتحلق فوق هذه البقعة النازفة من تراب أمتنا..وجد أن عليه أن يشارك الجميع إيجابيتهم في البحث عن وسيلة للمساعدة..وحانت اللحظة ، فما إن سمع باعتزام بعض الأطباء التوجه إلى هناك في تلك المهمة الاستشهادية لانقاذ جرحى غزة ، حتى أسرع بإنهاء ارتباطاته وإغلاق عيادته وتحزيم أمتعته ليشارك القوافل الطبية العابرة إلى هناك إلى أرض الرباط.. إلى غزة..لم تكن المهمة سهلة ولا ممتعة ، بل كانت تعني أربعة أيام من المرور الدائب على مكاتب وزارة الصحة ووزارة الخارجية ومقرات الجهات الأمنية ليحصل على الموافقات المطلوبة..ثم أربعة أيام أخرى أمام بوابة المعبر وعلى الرصيف حيث كان يفترش وزملاؤه الأرض في هذا البرد القارس وتحت أجواء القصف الذي يناوش الحدود..كانت روحه تهدر بنداء واحد "نحن فداؤك يا غزة"..وبعد ثمانية أيامٍ من الانتظار أتت الموافقة بالعبور تحت نيران القصف وعلى هدير صوت القنابل..ليبدأ رحلة ما كان يتصور أن تحكيها يوماً سجلات حياته..اليوم "كلنا لغزة..".




لم يعد يطارد مشاهد الرقص والغناء عبر شاشات الفضائيات..ولم يعد همه الأول تحميل أحدث الرنات لهاتفه الخلوي المتجدد دائماً..تناسى متابعاته اليومية لأحدث صيحات قصات العشر وموديلات الملابس والأحذية..لم يعد يُرى إلا متتبعاً لنشرات الأخبار وبرامج التحليل السياسي..كانت تؤلمه مشاهد القتل الجماعي المروع.. كانت تذهله مشاهد صمود الشباب الذين لا هم لهم إلا انقاذ الجرحى ونقل المصابين في ظل نيران القصف التي كانت تلاحقهم..كان يبهره صمود المقاومة التي وبأقل الإمكانات استطاعت أن تكون قوةً ترهب العدو وتصل إليه في مكمن داره.. كانت تزلزله تلك الروح الإيمانية التي سرت في وجدان هذا الشعب حتى أنهم يصمدون في مواجهة أعتى جيوش الأرض.. اكتشف أن للرجولة معانٍ أخرى..اكتشف أن للشباب دوراً آخر.. اكتشف أن للحياة غاياتٍ أسمى من تصفيف الشعر ومداعبة أزرار الموبايل وملاحقة الفتيات عبر الشات وصالات (الديسكو) ، اكتشف أن للأمة قضية عليه أن يعيش من أجلها ويدور في فلكها..هكذا ولُدت من جديد لأجلك يا غزة .




ما أحلى كوب الشاي الساخن في صبيحة يومٍ بارد قبل الذهاب للعمل..لكنه قرر أن يشارك في حملة الصوم الجماعي من أجل غزة ، حتى لو كلفه الأمر الحرمان من شرابه الساخن ووجبة إفطاره الشهية.."اللهم لك صمت وبك آمنت وعليك توكلت..اللهم انصر أهل غزة".




البيت والآولاد هي باختصار مفردات حياتي ..لم يعد يتسع الوقت لغيرهما..ولم يعد في الإمكان استغلال طاقتي الدعوية ودراستي المتعمقة لعلوم الفقه وأصول الدين.. لكن .. لكنني في حاجة الآن للفعل.. لم يعد بالإمكان السكون والركون وغزة تحترق..ليكن فبكل رجل يتفقه في دينه ستصمد غزة.. وبكل فتاة تقف على أمور عقيدتها تقوى غزة..وبكل طفل يتلو آيات القرآن تحيا غزة..وبقلوب تجتمع لتهدر بالدعاء ستنتصر الإرادة في غزة..




لا بأس ففي الإمكان توفير ساعة ..لا بل ساعتين.. بل أكثر خلال أيام الأسبوع لإلقاء المحاضرات بمسجد البلدة..عليَّ أن أكون معهم بإحياء الدين في هذه القلوب النضرة نصرةً لكِ يا غزة..




ماذا؟؟ الصلاة؟؟..الصلاةُ في وقتها؟؟..الصلاةُ في جماعة بالمسجد....صلاة الفجر وبالمسجد؟؟..ما هذه الأمنيات البعيدة.. انشغالاته الدائمة ..سهره اليومي الذي يمتد إلى ما قبل الفجر..استيقاظه عند العصر..خروجه الدائم مع شلة الأصدقاء.. سفراته.. رحلاته..بحثه الدؤوب عن المتعة بكافة أشكالها..كل هذا جعل من مجرد صلاة الفرد أمنية بعيدة المنال..لكنه..لكنه الآن..نعم هو ذلك الشاب النشيط الذي يهب قبيل الفجر بنصف ساعة..لا ليحزم أمتعته لرحلة مع الأصدقاء..ولا ليلتقي فتاة كان يواعدها عبر الشات..ولا حتى ليقضي مصلحة ضرورية لشخصه..ولكن ليسير في شوارع الحي يدعو الناس للاستيقاظ لصلاة الفجر..بعد أن اتفق مع مجموعة من أصدقائه على الطواف كلٌ بحيه لدعوة النائمين للاستيقاظ والصلاة والدعاء بصورة جماعية لأهل غزة.




نعم فغزة تنتفض من الألم ولكن انتفاضتها تحت أنياب الموت الكاسر كانت إيذاناً بانتفاضة روح جديدة في جسد الأمة..روح جديدة سرت في وجدان الرجال وفي أفئدة النساء وعلى ألسنة الأطفال.. روحٌ سرت فضمت الأيادي والقلوب والأرواح للبحث عن شيء فاعل لأجل غزة.. تنتفض غزة تحت نيران القصف.. وتنتفض الأمة متخلية عن سباتها وسكونها وركونها واستسلامها.. تنتفض الأمة فتشتعل الشوارع بالمظاهرات اليومية التي تجتاج المدن والعواصم .. تنتفض الأمة فتسرى فيها روحٌ ماتت منذ زمن ، تنتفض الأمة فيتناسى كلًٌ ذاته ومصالحه الشخصية ومكاسبه الذاتية وغايات سعادته.. تنتفض الأمة فتجتمع نساء السودان على بيع حليهن للتبرع بأثمانها لضحايا غزة..تنتفض الأمة فيجتمع أهالي قرية يمنية فقيرة لبيع مواشيهم وأغنامهم للتبرع بأثمانها لغزة..تنتفض الأمة فيتزاحم المصريون على التبرع بالدم حيث لا يتسع المكان لقدم ولا تكفي الأيام المحددة للتبرع مما يضطر القائمين على الحملة لمد فترات التبرع لأيام متوالية.




تنتفض الأمة فيتبنى شباب السعودية حملة الصيام من أجل غزة على الفيس بوك..وتتفق الفتيات على آداء العمرة من أجل نصرة غزة..تنتفض الأمة فيجتمع ملايين الأتراك على نداء "الله أكبر.. بالروح والدم نفديك يا غزة" وذلك في شوارع العاصمة أنقرة التي شهدت منذ زمن أشرس الحملات لمحاربة الإسلام وزلزلة أركانه ودحر لغته..تنتفض الأمة فتسري هذه الروح في العواصم العربية بل والعالمية في توافق وتلاحم لم يشهده العالم من قبل..انتفضي. انتفضي إذن يا غزة انتفضي لتنتفض معك روح الأمة وتبعث فيها الحياة من جديد.

3 تعليقات الزوار:

صقراوي يقول...

بسم الله ما شاء الله اللهم اجعلنا ممن نتغير لأجل غزة

بحـــر الدموع يقول...

لقد علمتنا يا غزة أن نعيش بكرامة وعزة
لقد علمتمونا يا اطفال غزة لغة الكلام الحر المقاوم
لقد علمتمونا اقوى لغات الصمود والعزة امام اعتى واقوى آلات الحرب البشعة
علمتمونا الكثير الكثير ..

بارك الله فيك أخي صقراوي وجزاك الله خيراً

لا تنسوا اخوانكم في غزة من دعائكم

||..بحـــر الدموع..||

Anonymous يقول...

يارب الشهادة

إرسال تعليق