المشهد الفلسطيني بعد أحداث غزة



بقلم: د. أنور حامد


لقد كانت الحرب على غزة كاشفةً كل المواقف، وليس عجبًا أن يطلِق عليها أهل الرباط في غزة "معركة الفرقان"؛ لأنها كانت فارقةً في كل شيء، وفرَّقت بين مرحلتين متباينتين، وبعثت هذه الحرب برسائل إلى الجميع واتضحت المواقف، ولا بد للجميع أن يعيد حساباته وفق هذه المواقف الجديدة:



أولاً: أهل الرباط في غزة وفلسطين

تحيةَ إكبار وإعزاز لكم؛ لثباتكم وصمودكم وفهمكم لقضيتكم وطبيعة المعركة مع العدوّ؛ فلم تتنكَّبوا الطريق ولم تنشغلوا بشيء غير العدو وأذكِّركم بـ:

- أنكم أهل الرباط والطائفة المنصورة، وأنكم قاهرون لعدوِّكم، ولن يتمكن منكم العدو إلا بما يصيبكم من لأواء.. عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوِّهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك"، قالوا: وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس" (أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد والطبراني في الكبير).



- أن أرض فلسطين هي أرض المحشر والمنشر، كما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: "يا رسول الله أفتنا فی بيت المقدس؟ قال: أرض المحشر والمنشر، ائتوه فصلوا فيه؛ فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره"، قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إليه؟ قال: فتهدي له زيتًا يسرج فيه, فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه" (الراوي: ميمونة بنت سعد مولاة النبي- حديث صحيح).



- أن المعركة لم تنتهِ؛ لأن الحبيب المصطفى قال "حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" ولكن العبرة بالنهاية، فأنتم المنتصرون، فاثبتوا على ذلك، ومعركة الحياة والبناء والإعمار أصعب من المعركة العسكرية.



- أن الحرب رغم آلامها وجراحها إلا أن لله أمورًا يبديها ولا يبتديها، وله فيها ترتيب آخر لا يعلمه كثير من الناس؛ فلقد أعادت الحرب القضية الفلسطينية إلى الوجود مرةً أخرى؛ بعد أن كانت تراوح بين الموت والموات، وكسبت القضية تعاطفًا دوليًّا من الشعوب قبل الحكومات.



- لا تعوِّلوا على الحكام العرب، ولا تربطوا قضيتكم بهم؛ فإنهم لا يملكون من أمرهم شيئًا، ومصيرهم إلى الزوال، ولكن راهنوا على الشعوب وهي ما زالت حيةً تنبض بالحراك، وهذا هو المكسب الحقيقي من مكاسب الحرب.



- لا تنزعجوا من السلطة الفلسطينية وتصرفاتها؛ فهي مقهورة على أمرها وسارت في طريق التنازلات لمرحلة لا تملك فيها التراجع؛ فقد اعترفت بالعدو، وألغت خيار المقاومة، ووقَّعت على محاربته، ووافقت على خيار تسوية القضية بالشروط الصهيونية!!، وبالتالي لو فكَّرت في تغيير موقفها فسيكون مصيرها أشدَّ قسوةً من مصير الراحل ياسر عرفات، وهم بالتالي يدركون أنهم أمام خيارين لا ثالث لهما: خيار الموت بأي وسيلة.. الحصار والاعتقال والإعدام كمصير صدام، أو الخيار الآخر وهو تنفيذ الإملاءات الصهيونية.



ثانيًا: حركات المقاومة في غزة

وعلى رأسهم حركة حماس، أحيِّيهم وأشدُّ على أيديهم، وأقول لهم: أعلم جيدًا أن ميدان القول غير ميدان العمل أو كما يقول المثل العامي: "اللي إيده في المية غير اللي إيده في النار"، وأعلم أن الوضع صعب بل في غاية الصعوبة، ولكن أعلم- وعلى يقين- بأنكم أهل لذلك، وأنكم كما دحرتم العدو فأنتم قادرون على تحدي الصعاب، وبعد النصر تأتي مرحلة جني الثمار، وهذه المرحلة تدور معها رحى المعركة السياسية التي لا تقل شأوًا عن المعركة العسكرية، وتحتاج إلى الدعم والإسناد دبلوماسيًّا وإعلاميًّا، وتلك معارك أخرى تدور رحاها أيضًا، وقد تابعت بانبهار المجاهدين البواسل وهم يخوضون هذه المعارك جميعًا في آنٍ واحد، ويحقِّقون النجاح تلو النجاح؛ مع أن المعركة السياسية والإعلامية والدبلوماسية تتدخَّل فيها عوامل عدة وأطراف عديدة؛ مما يجعل المعركة أكثرَ صعوبةً وميادينها كثيرة ومتنوعة وجبهاتها عديدة، وذلك يتطلَّب جهودًا كبيرةً ومتابعةً حيةً وترقُّبًا لكل ما يقال وما يكتب وما يُعرض؛ بدون استثناء، مع التحليل والرد المناسب في التوقيت الأنسب وعدم الالتفات إلى القضايا الجانبية والمعارك الكلامية.



ولتعلموا أن القوة السياسية في مواقفها تستند أساسًا إلى ما تحقِّقونه أنتم على الأرض، ولولا ثباتكم وصمودكم لتغيَّرت الأمور سياسيًّا وميدانيًّا وجغرافيًّا ولما استقبلت العواصم العربية قياداتكم كمفاوضين وهم الذين كانوا يتمنون لكم الفناء والزوال؛ فأنتم مصدر القوة والعزة، فلا تتخلَّوا عنها، وتسلَّحوا بالإيمان بالله، وخذوا بكل أسباب القوة وطوِّروا أساليبها لتتناسب كقوة تردع العدوّ عن الاستخفاف بدمائنا.



القيادة السياسية للمقاومة

أهنئكم بالنصر وبالحنكة في إدارة المعركة وبنجاحكم في توحيد صفوف الفصائل المقاومة في خندق واحد، وأدعو الله لكم بالثبات والتصر في المعركة السياسية والدبلوماسية، ولا يفوتنَّكم أن تنوِّعوا خطابكم بتنوّع المخاطَب، ولا تُجمِلوا في الخطاب بين الفرقاء، ومن ذلك أن يكون العدو الصهيوني في رأس حربة الخطاب، ولا يجب أن يشرك معه مؤيدوه ومساعدوه في الخطاب.



وأن نتجنَّب الرد على الأشخاص مهما كانت أعمالهم وعمالتهم واضحةً، وأيًّا كانت تصريحاتهم سيئةً، بل يجب التركيز على القضية الرئيسية والدبلوماسية الكلامية التي تمنع من الوقوع في الفخِّ الإعلامي والانجرار وراء الحرب الكلامية والتجريح الشخصي الذي لا يخدم القضية بل يضرها.



ثالثًا: شرفاء حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية

إن تاريخكم النضالي لا يسمح لكم بتغيير مواقفكم والتضحية بثوابت القضية الفلسطينية؛ فلم يعد في العمر بقية تسمح بالبيع والشراء، وإنني أدعوكم إلى النظر إلى تاريخكم النضالي ومصيره، وهل ستختمون حياتكم بالتفريط في القضية للعدو، أدعوكم إلى العودة إلى خطبكم التي ألقيتموها والكتابات التي كتبتموها؛ لعلكم تتذكرون وتعودون إلى مواقفكم السابقة.



رابعًا: السلطة الفلسطينية

إن من باع قضيته لعدوِّه خسر شعبه ولم يأمن غدرَ عدوِّه, وأنتم لم تعتبروا من سلفكم ولا من التاريخ، ولم تذاكروا الجغرافيا جيدًا، ودخلتم السياسة من نفق ضيق يسير من ضيِّق إلى أضيق من أعلى إلى أسفل، ينتهي إلى الهاوية، ولذلك أنتم في مرحلة انتحار سياسي، وضعتم أنفسكم بين مطرقة العدو وسندان المقاومة، ومع هذا الوضع الصعب الذي وضعتم أنفسكم فيه ومع السعي المحموم من بعض الأنظمة العربية وبعض الدول الغربية لإخراجكم من هذا النفق وإنقاذكم من مهاوي الردى تبدو صعبةً بل شبه مستحيلة فتدبَّروا أمركم.



خامسًا: الأنظمة العربية

لستم على استعداد لتغيير مبادئكم ونهجكم اللا ديني في الحكم والسياسة، يُدفع بكم إلى معاداة كل منهج إسلامي والتحالف مع أي منهج يتقاطع مع المنهج الإسلامي حتى لو كان اليهود, ويظل البقاء في الحكم أطول فترة ممكنة وعدم الاستعداد لخوض أي معركة من المعارك مع العدو حتى لو كانت سياسيةً وكلاميةً أو دبلوماسيةً فضلاً عن الحرب العسكرية هو خيارَكم الأول والأخير؛ حتى لو كان الثمن الشعوب والأمة, ومع ذلك تخوضون معارك إعلامية حامية الوطيس مع كل ما هو إسلامي بمناسبة وبغير مناسبة، ومعاركَ أمنيةً مع المعارضة، وتحالفًا غريبًا وعجيبًا مع الفساد والعدو, ولذا أقول لكم إن دوام الحال من المحال، وسيذهب العدو ويذهب الفساد، وسترحلون عن كراسيكم طوعًا أو كرهًا، ولكن الويل لكم من ثورة الشعوب في الدنيا ومن عقاب الله في الآخرة، وستبقى البلاد والشعوب، فمن انحاز لشعبه ربح نفسه وشعبه وأمن حكمه، ومن راهن على غير ذلك كانت نهايته غير مأمونة العواقب، فراهنوا على خيارات الشعوب لتضمنوا البقاء.



الشعوب العربية والإسلامية

لا بد من إدراك الواقع الذي تعيش فيه الأمة جيدًا، وقراءة الخريطة الجغرافية والسياسية، ومعرفة جوانب الضعف والقوة في هذه الأمة، وأن القوة ليست عتادًا وسلاحًا وجيشًا وشرطةً فقط، ولكن هناك مفاهيم أخرى للقوة؛ منها القوة السياسية والقوة الدبلوماسية والقوة الإعلامية وقوة الشعوب، وهذه الأخيرة قوة رهيبة بغير سلاح، تستطيع أن تهزم جيوشًا، وتغيِّر نُظُم حكم، وتفرض واقعًا بدون إراقة دماء.. هذه القوة لجأ إليها غاندي في الهند ضد الاحتلال الإنجليزي، وأجبره على الرحيل, ولجأ إليها مانديلا وحرَّر جنوب إفريقيا من البريطانيين البيض، ولها صور متعددة؛ منها المقاطعة، ومنها التظاهر، ومنها العصيان المدني، ووو.. ولكن أساس نجاح هذه القوة هو توحُّدها على وسيلة وهدف واحد؛ فقوة الجماهير في توحدها؛ لذلك تسعى الحكومات إلى تقويض هذه الوحدة أولاً بأول.



لذلك أدعو الشعوب والجماهير إلى إعادة النظر فى مظاهر قوتها واستثمارها وعدم الهزيمة نفسيًّا أمام الحكام وبطشهم، ولا تفقدوا الأمل فى التغيير والإصلاح نتيجة تجبُّر الحكام؛ لأن رهان التغيير مرهون بالشعوب لا بالحكومات فقط، وكيفية تفعيل واستثمار هذه القوة، وأول خطوات الاستثمار والتفعيل هو الوعي السياسي للشعوب والإيجابية التي تدفع الجميع للتحرك والرغبة في التغيير.



قضية غزة هي قلب قضية فلسطين وهي قضية المسلمين وليست قضية أهل غزة، كما أن فلسطين هي قلب الأمن القومي للعرب والدفاع عن فلسطين دفاع عن الأمة بأسرها وخبراء الأمن القومي والعسكريون يدركون ذلك جيدًا، بعضهم تكلَّم عن ذلك، والبعض الآخر سيتكلم بعد فوات الأوان، فلتقل الشعوب كلمتها قبل فوات الأوان.

0 تعليقات الزوار:

إرسال تعليق